قصة حياة الصحابيين زيد بن حارثة وابنه أسامة رضي الله عنهما.
ففي أولُ مواجهةٍ عسكرية بين المسلمين والروم، حشد قائدُ الرومِ هرقل نحوَ مائةِ ألفٍ من جنوده، ومثلَهم من قبائلَ عربيةٍ في المنطقة، بهدف القضاءِ النهائي على الدعوةِ الإسلامية الصاعدة.
كانت قوةُ المسلمين يومذاك لا تزيد عن ثلاثة آلاف مقاتل، يقودُهم صحابيٌ من المقربين إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو زيدُ بنُ حارثة. وكانت وصايا الرسول لهم أن يقودَ الجيشَ -إذا قتل زيدٌ- جعفرَ بنَ أبي طالب، فإن قتل فعبدُ الله بنُ رَواحة.
وعلى الرغم من اختلال التوازن في العددِ والعَتاد بين جيشيْ المسلمين والروم في معركة مؤتة، إلا أن القادةَ الثلاثة قبل أن يُسْتَشهدوا، أبدوْا بطولةً نادرة، وقدراتٍ قتاليةً عالية، تُضاف إلى الأهميةِ العسكرية الكبرى لتلك المعركة.
واختيارُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم زيدَ بنَ حارثة، لقيادةِ جيش المسلمين في معركةِ مؤتة، أمرٌ كانت له دلالتُه المهمة.نشأة زيد
نشأ زيدُ بنُ حارثة في كَنَفِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في مكة، مُنذُ ما قبلَ البعثةِ النبويةِ بسنوات، وكان من أوائل الذين دخلوا في دينِ الله. وزيدٌ لم يَكن من أهل مكة.
زيدُ بنُ حارثة كان من أقربِ المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفارقه. وتخلق بأخلاقِ بيتِ النبوة.
يقول د. عائض القرني: زيد كان مرافقا ومولى لمحمد (ص) وكان قبل ذلك يسمى زيد بن محمد وكان لصيقا بالرسول (ص) حتى سافر معه في التجارة إلى الشام.
زوَّجَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم مُرَبِيَتَه أمَّ أيمن، فأنجبتْ له أسامة. وعندما ذهبَ النبي إلى الطائف كان برفقته زيدُ بن حارثة. وهناك تعرض الرسولُ وزيدٌ للأذى الشديد.
وبعد الهجرة إلى المدينة المنورة، شهد زيدٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهدَ كلها. وكان مقاتلا شجاعًا، ومن أحسنِ الرماة. فاشترك في غزوة بدر، وبايعَ النبيَّ على الموتِ في أُحد، وحضرَ بقية الغزوات، وجعله النبيُ أميرًا على سبعِ سرايا.
ولشدةِ قربه منه زَوَّجه ابنةَ عمتِه زينبَ بنتَ جحش، ولكنْ لم تَدُمِ الحياةُ الزوجيةُ بينهما. ونزل في أمرِ هذا الزواج حكمٌ قرآني، وَردَ فيه اسمُ زيدٌ رضي الله عنه. وهو الصحابيُ الوحيدُ الذي ذُكِرَ اسمُه في القرآن الكريم، في سياقِ النهيِ عن نسبةِ الناسِ إلى غيرِ آبائهم.
وهذه المكانةُ الرفيعة التي تبوأها زيدُ بنُ حارثة، هي التي جعلت الرسول يختارُه لقيادة أولِ مواجهة مع الروم. وكانت إرادةُ الله أن يكونَ من أولِ شهدائها، ليُدفن رضيُ الله عنه مع بقيةِ شهداءِ مؤته في منطقة قريبة من أرض المعركة، سُميت فيما بعد بالمَزار، وهي على بُعد مئةٍ وأربعين كيلومترا إلى الجنوب من العاصمةِ الأردنية عمان.
أسامة بن زيد
وكان حُزنُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شديداً على فقدانِ زيدٍ ورفاقِه. ولذلك بدأ بإعداد ابنِه أسامة، لقيادة جيشٍ آخر لمواجهةِ الروم. وقد تواصل هذا الإعداد حتى السنةِ الحاديةَ عشرةَ للهجرة، عندما بلغ أسامةُ بنُ زيد الثامنةَ عشرة من عمره. وفي أواخر أيام حياته صلى الله عليه وسلم، أمر أسامةَ بأن يسير بجيشِه إلى بلاد الشام، وكان معه عدد من كبارِ الصحابة.
لكن إرادةَ الله قَدَّرتْ أمراً آخر. فقد وصلت الأخبارُ إلى أسامةَ بأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد فارق هذه الدنيا، فعادَ بجيشِه إلى المدينة، ليشهدَ مع بقية المسلمين وداعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وكان تسييرُ هذا الجيشِ من جديدِ إلى الشام أولَ مهمة قام بها أبو بكرٍ الصديقُ رضي الله عنه، بعدما تولى الخلافة.
وكانت رؤية أبي بكر صائبة، فإنفاذُ جيش أسامة كان له أثرٌ كبير في تثبيت دعائم الدولةِ الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وحال دون اتساع رقعة الردة التي سرت في بعض القبائل العربية في ذلك الوقت. وفي هذا التحركِ العسكري، أثبتَ أسامةُ بن زيد مقدرةً قياديةً فذة.
وقد اعتزلُ أسامة بن زيد الفتنَ بعد مقتلِ عثمانَ رضي الله عنهما. وأمضى شطراً من حياتِه في منطقة دمشق، ثم عاد إلى المدينة المنورة ومات بها وقد بلغ بضعاً وستين سنة، ودفن في البقيع، رحِمَه اللهُ رحمةً واسعة، ورضي عنه وعن صحابةِ رسول الله أجمعين.